كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوات (154)}.
رفع بإضمار مكنىّ من أسمائهم كقولك: لا تقولوا: هم أموات بل هم أحياء.
ولا يجوز في الأموات النصب لأن القول لا يقع على الأسماء إذا أضمرت وصوفها أو أظهرت كما لا يجوز قلت عبد اللّه قائما، فكذلك لا يجوز نصب الأموات لأنك مضمر لأسمائهم، إنما يجوز النصب فيما قبله القول إذا كان الاسم في معنى قول من ذلك: قلت خيرا، وقلت شرّا. فترى الخير والشرّ منصوبين لأنهما قول، فكأنك قلت: قلت كلاما حسنا أو قبيحا. وتقول: قلت لك خيرا، وقلت لك خير، فيجوز، إن جعلت الخير قولا نصبته كأنك قلت: قلت لك كلاما، فإذا رفعته فليس بالقول، إنما هو بمنزلة قولك: قلت لك مال.
فابن على ذا ما ورد عليك من المرفوع قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَة رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} و: {خَمْسَة} و: {سَبْعَة} لا يكون نصبا لأنه إخبار عنهم فيه أسماء مضمرة كقولك:
هم ثلاثة، وهم خمسة. وأمّا قوله تبارك وتعالى: {وَيَقُولُونَ طاعَة} فإنه رفع على غير هذا المذهب. وذلك أن العرب كانوا يقال لهم: لابد لكم من الغزو في الشتاء والصيف، فيقولون: سمع وطاعة معناه: منّا السمع والطاعة، فجرى الكلام على الرفع. ولو نصب على: نسمع سمعا ونطيع طاعة كان صوابا.
وكذلك قوله تبارك وتعالى في سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم: {فَأَوْلى لَهُمْ طاعَة وَقَوْل مَعْرُوف}. عيّرهم وتهدّدهم بقوله: {فَأَوْلى لَهُمْ} ثم ذكر ما يقولون فقال: يقولون إذا أمروا: {طاعَة}.: {فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ} نكلوا وكذبوا فلم يفعلوا. فقال اللّه تبارك وتعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ} وربما قال بعضهم: إنما رفعت الطاعة بقوله: لهم طاعة، وليس ذلك بشيء.
واللّه أعلم. ويقال أيضا: {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ} و: {طاعَة} فأضمر الواو، وليس ذلك عندنا من مذاهب العرب، فإن يك موافقا للتفسير فهو صواب.
وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ (155)}.
ولم يقل بأشياء لاختلافها. وذلك أن من تدلّ على أن لكل صنف منها شيئا مضمرا: بشيء من الخوف وشيء من كذا، ولو كان بأشياء لكان صوابا.
وقوله: {قالُوا إِنَّا لِلَّهِ (156)}.
لم تكسر العرب إنا إلا في هذا الموضع مع اللام في التوجّع خاصّة. فإذا لم يقولوا للّه فتحوا فقالوا: إنا لزيد محبّون، وإنا لربّنا حامدون عابدون.
وإنما كسرت في: {إِنَّا لِلَّهِ} لأنها استعملت فصارت كالحرف الواحد، فأشير إلى النون بالكسر لكسرة اللام التي في: {لِلَّهِ} كما قالوا: هالك وكافر، كسرت الكاف من كافر لكسرة الألف لأنه حرف واحد، فصارت: {إِنَّا لِلَّهِ} كالحرف الواحد لكثرة استعمالهم إياها، كما قالوا: الحمد للّه.
وقوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (158)}. كان المسلمون قد كرهوا الطواف بين الصفا والمروة لصنمين كانا عليهما، فكرهوا أن يكون ذلك تعظيما للصنمين، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} وقد قرأها بعضهم: {ألّا يطّوف} وهذا يكون على وجهين أحدهما أن تجعل: {لا} مع: {أن} صلة على معنى الإلغاء كما قال: {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} والمعنى: ما منعك أن تسجد. والوجه الآخر أن تجعل الطواف بينهما يرخّص في تركه. والأوّل المعمول به.
وقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا (158)}.
تنصب على جهة فعل. وأصحاب عبد اللّه وحمزة: {ومن يطّوّع} لأنها في مصحف عبد اللّه: {يتطوع}.
وقوله: {أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} قال ابن عباس: {اللَّاعِنُونَ} كلّ شيء على وجه الأرض إلا الثقلين.
وقال عبد اللّه بن مسعود: إذا تلا عن الرجلان فلعن أحدهما صاحبه وليس أحدهما مستحقّ اللعن رجعت اللعنة على المستحقّ لها، فإن لم يستحقّها واحد منهما رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل اللّه تبارك وتعالى. فجعل اللعنة من المتلاعنين من الناس على ما فسّر.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّار أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)} ف: {الْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ} في موضع خفض تضاف اللعنة إليهم على معنى: عليهم لعنة اللّه ولعنة الملائكة ولعنة الناس. وقرأها الحسن: {لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعون} وهو جائز في العربية وإن كان مخالفا للكتاب. وذلك أن قولك عليهم لعنة اللّه كقولك يلعنهم اللّه ويلعنهم الملائكة والناس. والعرب تقول: عجبت من ظلمك نفسك، فينصبون النفس لأن تأويل الكاف رفع. ويقولون: عجبت من غلبتك نفسك، فيرفعون النفس لأن تأويل الكاف نصب. فابن على ذا ما ورد عليك.
ومن ذلك قول العرب: عجبت من تساقط البيوت بعضها على بعض، وبعضها على بعض. فمن رفع ردّ البعض إلى تأويل البيوت لأنها رفع ألا ترى أن المعنى: عجبت من أن تساقطت بعضها على بعض. ومن خفض أجراه على لفظ البيوت، كأنه قال: من تساقط بعضها على بعض.
وأجود ما يكون فيه الرفع أن يكون الأوّل الذي في تأويل رفع أو نصب قد كنى عنه مثل قولك: عجبت من تساقطها. فتقول هاهنا: عجبت من تساقطها بعضها على بعض لأن الخفض إذا كنيت عنه قبح أن ينعت بظاهر، فردّ إلى المعنى الذي يكون رفعا في الظاهر، والخفض جائز. وتعمل فيما تأويله النصب بمثل هذا فتقول: عجبت من إدخالهم بعضهم في إثر بعض تؤثر النصب في بعضهم، ويجوز الخفض.
وقوله: {وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ (164)}.
تأتي مرّة جنوبا، ومرّة شمالا، وقبولا، ودبورا. فذلك تصريفها.
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ (165)} يريد-واللّه أعلم- يحبّون الأنداد، كما يحبّ المؤمنون اللّه. ثم قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من أولئك لأندادهم.
وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ (165)}.
يوقع: {يَرَى} على {أن القوّة للّه} {وأن اللّه} وجوابه متروك. واللّه أعلم.
وقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ} وترك الجواب في القرآن كثير لأن معاني الجنة والنار مكرر معروف. وإن شئت كسرت إنّ وإنّ وأوقعت: {يَرَى} على: {إِذْ} في المعنى. وفتح أنّ وأنّ مع الياء أحسن من كسرها.
ومن قرأ: {ولو ترى الّذين ظلموا} بالتاء كان وجه الكلام أن يقول: {أَنَّ الْقُوَّةَ} بالكسر: {وَأَنَّ} لأن: {ترى} قد وقعت على: {الذين ظلموا} فاستؤنفت إن- وإنّ ولو فتحتهما على تكرير الرّؤية من: {ترى} ومن: {يَرَى} لكان صوابا كأنه قال: {ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب} يرون: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}.
وقوله: {أَوَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ (170)}.
تنصب هذه الواو لأنها ولو عطف أدخلت عليها ألف الاستفهام، وليست بأو التي واوها ساكنة لأن الألف من أو لا يجوز إسقاطها، وألف الاستفهام تسقط فتقول: ولو كان، أو لو كان إذا استفهمت.
وإنما غيّرهم اللّه بهذا لما قالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا} قال اللّه تبارك وتعالى يا محمد قل: {أوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ} فقال: {آباؤُهُمْ} لغيبتهم، ولو كانت: {آباؤكم} لجاز لأن الأمر بالقول يقع مخاطبا مثل قولك: قل لزيد يقم، وقل له قم. ومثله: {أوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ} {أوَلَمْ يَسِيرُوا}.
ومن سكّن الواو من قوله: {أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ} في الواقعة وأشباه ذلك في القرآن، جعلها: {أو} التي تثبت الواحد من الاثنين. وهذه الواو في فتحها بمنزلة قوله: {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ} دخلت ألف الاستفهام على: {ثُمَّ} وكذلك: {أفَلَمْ يَسِيرُوا}.
وقوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ (171)}.
أضاف المثل إلى الذين كفروا، ثم شبّههم بالراعي. ولم يقل: كالغنم. والمعنى- واللّه أعلم- مثل الذين كفروا كمثل البهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فلو قال لها: أرعى أو اشربى، لم تدر ما يقول لها. فكذلك مثل الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن وإنذار الرسول. فأضيف التشبيه إلى الراعي، والمعنى- واللّه أعلم- في المرعىّ. وهو ظاهر في كلام العرب أن يقولوا:
فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى: كخوفه الأسد لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف. وقال الشاعر:
لقد خفت حتى ما تزيد مخافتى ** على وعل في ذى المطارة عاقل

والمعنى: حتى ما تزيد مخافة وعل على مخافتى. وقال الآخر:
كانت فريضة ما تقول كما ** كان الزناء فريضة الرّجم

والمعنى: كما كان الرجم فريضة الزناء. فيتهاون الشاعر بوضع الكلمة على صحّتها لاتّضاح المعنى عند العرب. وأنشدنى بعضهم:
إن سراجا لكريم مفخره ** تحلى به العين إذا ما تجهره

والعين لا تحلى به، إنما يحلى هو بها.
وفيها معنى آخر: تضيف المثل إلى: {الذين كفروا} وإضافته في المعنى إلى الوعظ كقولك مثل وعظ الذين كفروا وواعظهم كمثل الناعق كما تقول:
إذا لقيت فلانا فسلّم عليه تسليم الأمير. وإنما تريد به: كما تسلّم على الأمير.
وقال الشاعر:
فلست مسلّما ما دمت حيّا ** على زيد بتسليم الأمير

وكلّ صواب.
وقوله: {صُمّ بُكْم عُمْي فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)} رفع وهو وجه الكلام لأنه مستأنف خبر، يدلّ عليه قوله: {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} كما تقول في الكلام: هو أصمّ فلا يسمع، وهو أخرس فلا يتكلّم. ولو نصب على الشتم مثل الحروف في أوّل سورة البقرة في قراءة عبد اللّه: {وتركهم في ظلمات لا يبصرون صمّا بكما عميا} لجاز.
وقوله: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ (173)}.
نصب لوقوع: {حَرَّمَ} عليها. وذلك أن قولك: {إِنَّما} على وجهين:
أحدهما أن تجعل: {إِنَّما} حرفا واحدا، ثم تعمل الأفعال التي تكون بعدها في الأسماء، فإن كانت رافعة رفعت، وإن كانت ناصبة نصبت فقلت: إنما دخلت دارك، وإنما أعجبتنى دارك، وإنّما مالى مالك. فهذا حرف واحد.
وأمّا الوجه الآخر فأن يجعل ما منفصلة من إنّ فيكون ما على معنى الذي، فإذا كانت كذلك وصلتها بما يوصل به الذي، ثم يرفع الاسم الذي يأتى بعد الصلة كقولك إنّ ما أخذت مالك، إن ما ركبت دابّتك. تريد: إن الذي ركبت دابتك، وإن الذي أخذت مالك. فأجرهما على هذا.
وهو في التنزيل في غير ما موضع من ذلك قوله تبارك وتعالى: {أَنَّما إِلهُكُمْ إِله واحِد} {إِنَّما أَنْتَ نَذِير} فهذه حرف واحد، هي وإنّ، لأن الذي لا تحسن في موضع ما.
وأمّا التي في مذهب الذي فقوله: {إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ} معناه:
إن الذي صنعوا كيد ساحر. ولو قرأ قارئ {إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ} نصبا كان صوابا إذا جعل إنّ وما حرفا واحدا. وقوله {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} قد نصب المودّة قوم، ورفعها آخرون على الوجهين اللذين فسّرت لك. وفى قراءة عبد اللّه {إنما مودّة بينكم في الحياة الدنيا} فهذه حجّة لمن رفع المودّة لأنها مستأنفة لم يوقع الاتّخاذ عليها، فهو بمنزلة قولك: إن الذي صنعتموه ليس بنافع، مودّة بينكم ثم تنقطع بعد. فإن شئت رفعت المودّة ببين وإن شئت أضمرت لها اسما قبلها يرفعها كقوله: {سُورَة أَنْزَلْناها} وكقوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغ فَهَلْ يُهْلَكُ}.
فإذا رأيت {إنما} في آخرها اسم من الناس وأشباههم ممّا يقع عليه {من} فلا تجعلنّ {ما} فيه على جهة الذي لأن العرب لا تكاد تجعل {ما} للناس.
من ذلك: إنّما ضربت أخاك، ولا تقل: أخوك لأن {ما} لا تكون للناس.
فإذا كان الاسم بعد {إنما} وصلتها من غير الناس جاز فيه لك الوجهان فقلت: إنّما سكنت دارك. وإن شئت: دارك.
وقد تجعل العرب {ما} في بعض الكلام للناس، وليس بالكثير. وفى قراءة عبد اللّه: {والنّهار إذا تجلّى والذّكر والأنثى} وفي قراءتنا: {وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} فمن جعل: {ما خَلَقَ} للذكر والأنثى جاز أن يخفض: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} كأنه قال والذي خلق: الذكر والأنثى. ومن نصب: {الذَّكَرَ} جعل: {ما} و: {خَلَقَ} كقوله: وخلقه الذكر والأنثى، يوقع خلق عليه. والخفض فيه على قراءة عبد اللّه حسن، والنصب أكثر.
ولو رفعت: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} كان وجها. وقد قرأ بعضهم: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} ولا يجوز هاهنا إلا رفع الميتة والدم لأنك إن جعلت: {إِنَّما} حرفا واحدا رفعت الميتة والدم لأنه فعل لم يسمّ فاعله، وإن جعلت: {ما} على جهة الذي رفعت الميتة والدم لأنه خبر لما.
وقوله: {وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ (173)}.
الإهلال: ما نودى به لغير اللّه على الذباح وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} {غير} في هذا الموضع حال للمضطرّ كأنك قلت: فمن اضطرّ لا باغيا ولا عاديا فهو له حلال. والنصب هاهنا بمنزلة قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} ومثله: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ} و: {غَيْرِ} هاهنا لا تصلح لا في موضعها لأنّ لا تصلح في موضع غير. وإذا رأيت: {غَيْرَ} يصلح لا في موضعها فهى مخالفة لِغَيْرِ التي لا تصلح لا في موضعها.
ولا تحلّ الميتة للمضطرّ إذا عدا على الناس بسيفه، أو كان في سبيل من سبل المعاصي. ويقال: إنه لا ينبغى لآكلها أن يشبع منها، ولا أن يتزوّد منها شيئا.
إنما رخّص له فيما يمسك نفسه.
وقوله: {فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}.
فيه وجهان: أحدهما معناه: فما الذي صبّرهم على النار؟. والوجه الآخر: فما أجرأهم على النار! قال الكسائىّ: سألنى قاضى اليمن وهو بمكّة، فقال: اختصم إلىّ رجلان من العرب، فحلف أحدهما على حقّ صاحبه، فقال له: ما أصبرك على اللّه! وفى هذه أن يراد بها: ما أصبرك على عذاب اللّه، ثم تلقى العذاب فيكون كلاما كما تقول: ما أشبه سخاءك بحاتم.
وقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ (177)} إن شئت رفعت: {الْبِرَّ} وجعلت: {أَنْ تُوَلُّوا} في موضع نصب. وإن شئت نصبته وجعلت: {أَنْ تُوَلُّوا} في موضع رفع كما قال: {فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ} في كثير من القرآن. وفى إحدى القراءتين: {لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ} فلذلك اخترنا الرفع في: {الْبِرُّ} والمعنى في قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أي ليس البرّ كله في توجّهكم إلى الصلاة واختلاف القبلتين وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ثم وصف ما وصف إلى آخر الآية. وهى من صفات الأنبياء لا لغيرهم.
وأمّا قوله: {وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} فإنه من كلام العرب أن يقولوا: إنما البرّ الصادق الذي يصل رحمه، ويخفى صدقته، فيجعل الاسم خبرا للفعل والفعل خبرا للاسم لأنه أمر معروف المعنى.
فأمّا الفعل الذي جعل خبرا للاسم فقوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ}.
ف هو كناية عن البخل. فهذا لمن جعل: {الَّذِينَ} في موضع نصب وقرأها: {تحسبن} بالتاء. ومن قرأ بالياء جعل: {الَّذِينَ} في موضع رفع، وجعل هو عمادا للبخل المضمر، فاكتفى بما ظهر في: {يَبْخَلُونَ} من ذكر البخل ومثله في الكلام:
هم الملوك وأبناء الملوك لهم ** والآخذون به والساسة الأوّل

قوله: به يريد: بالملك، وقال آخر:
إذا نهى السفيه جرى إليه ** وخالف والسفيه إلى خلاف

يريد إلى السفه.
وأما الأفعال التي جعلت أخبارا للناس فقول الشاعر:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ** ولكنما الفتيان كلّ فتى ندى

فجعل أن خبرا للفتيان.
وقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} من في موضع رفع، وما بعدها صلة لها، حتى ينتهى إلى قوله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ فتردّ: {الْمُوفُونَ} على: {مَنْ} و: {الْمُوفُونَ} من صفة: {مَنْ} كأنه: من آمن ومن فعل وأوفى. ونصبت: {الصَّابِرِينَ} لأنها من صفة: {مَنْ} وإنما نصبت لأنها من صفة اسم واحد، فكأنه ذهب به إلى المدح والعرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذمّ، فيرفعون إذا كان الاسم رفعا، وينصبون بعض المدح، فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدح مجدّد غير متبع لأوّل الكلام من ذلك قول الشاعر:
لا يبعدن قومى الذين هم ** سمّ العداة وآفة الجزر

النازلين بكلّ معترك ** والطيّبين معاقد الأزر

وربما رفعوا النازلون والطيبون، وربما نصبوهما على المدح، والرفع على أن يتبع آخر الكلام أوّله. وقال بعض الشعراء:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

وذا الرأى حين تغمّ الأمور ** بذات الصليل وذات اللّجم

فنصب ليث الكتيبة وذا الرأى على المدح والاسم قبلهما مخفوض لأنه من صفة واحد، فلو كان الليث غير الملك لم يكن إلا تابعا كما تقول مررت بالرجل والمرأة، وأشباهه. قال: وأنشدنى بعضهم:
فليت التي فيها النجوم تواضعت ** على كل غثّ منهم وسمين

غيوث الحيا في كل محل ولزبة ** أسود الشّرى يحمين كلّ عرين

فنصب. ونرى أنّ قوله: {لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ} أنّ نصب: {الْمُقِيمِينَ} على أنه نعت للراسخين، فطال نعته ونصب على ما فسّرت لك.
وفي قراءة عبد اللّه: {والمقيمون} و: {المؤتون} وفي قراءة أبىّ: {وَالْمُقِيمِينَ} ولم يجتمع في قراءتنا وفى قراءة أبىّ إلا على صواب. واللّه أعلم..
حدثنا الفرّاء: قال: وقد حدّثنى أبو معاوية الصرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها سئلت عن قوله: {إِنْ هذانِ لَساحِرانِ} وعن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ} وعن قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ} فقالت: يا ابن أخي هذا كان خطأ من الكاتب.
وقال فيه الكسائىّ: {وَالْمُقِيمِينَ} موضعه خفض يردّ على قوله: {بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ويؤمنون بالمقيمين الصلاة هم والمؤتون الزكاة.
قال: وهو بمنزلة قوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} وكان النحويّون يقولون {الْمُقِيمِينَ} مردودة على {بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} إلى {الْمُقِيمِينَ} وبعضهم {لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} ومن {الْمُقِيمِينَ} وبعضهم {مِنْ قَبْلِكَ} ومن قبل {الْمُقِيمِينَ}.
وإنما امتنع من مذهب المدح- يعنى الكسائىّ- الذي فسّرت لك، لأنه قال: لا ينصب الممدوح إلا عند تمام الكلام، ولم يتمم الكلام في سورة النساء.
ألا ترى أنك حين قلت: {لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ}- إلى قوله: {وَالْمُقِيمِينَ}-: {والْمُؤْتُونَ} كأنك منتظر لخبره، وخبره في قوله: {أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} والكلام أكثره على ما وصف الكسائىّ. ولكن العرب إذا تطاولت الصفة جعلوا الكلام في الناقص وفى التامّ كالواحد ألا ترى أنهم قالوا في الشعر:
حتى إذا قملت بطونكم ** ورأيتم أبناءكم شبّوا

وقلبتم ظهر المجنّ لنا ** إنّ اللئيم العاجز الخبّ

فجعل جواب حتى إذا بالواو، وكان ينبغى ألا يكون فيه واو، فاجتزئ بالإتباع ولا خبر بعد ذلك. وهذا أشدّ مما وصفت لك.
ومثله في قوله: {حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها} ومثله في قوله: {فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ} جعل بالواو. وفى قراءة عبد اللّه: {فلمّا جهّزهم بجهازهم وجعل السّقاية} وفي قراءتنا بغير واو. وكلّ عربي حسن.
وقد قال بعضهم: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى} {وَالصَّابِرِينَ} فنصب الصابرين على إيقاع الفعل عليهم. والوجه أن يكون نصبا على نيّة المدح لأنه من صفة شيء واحد. والعرب تقول في النكرات كما يقولونه في المعرفة، فيقولون: مررت برجل جميل وشابّا بعد، ومررت برجل عاقل وشرمحا طوالا وينشدون قوله:
ويأوى إلى نسوة بائسات ** وشعثا مراضيع مثل السّعالى

وشعث فيجعلونها خفضا بإتباعها أوّل الكلام، ونصبا على نية ذمّ في هذا الموضع.
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى (178)}.
فإنه نزل في حيّين من العرب كان لأحدهما طول على الآخر في الكثرة والشرف، فكانوا يتزوّجون نساءهم بغير مهور، فقتل الأوضع من الحيّين من الشريف قتلى، فأقسم الشريف ليقتلنّ الذكر بالأنثى والحرّ بالعبد وأن يضاعفوا الجراحات، فأنزل اللّه تبارك وتعالى هذا على نبيّه، ثم نسخه قوله: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى آخر الآية. فالأولى منسوخة لا يحكم بها.
وأما قوله: {فَاتِّباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَداء إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ} فإنه رفع. وهو بمنزلة الأمر في الظاهر كما تقول: من لقى العدوّ فصبرا واحتسابا. فهذا نصب ورفعه جائز. وقوله تبارك وتعالى: {فَاتِّباع بِالْمَعْرُوفِ} رفع ونصبه جائز. وإنما كان الرفع فيه وجه الكلام لأنها عامّة فيمن فعل ويراد بها من لم يفعل. فكأنه قال: فالأمر فيها على هذا، فيرفع. وينصب الفعل إذا كان أمرا عند الشيء يقع ليس بدائم مثل قولك للرجل: إذا أخذت في عملك فجدّا جدّا وسيرا سيرا.
نصبت لأنك لم تنوبه العموم فيصير كالشئ الواجب على من أتاه وفعله ومثله قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزاء مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ومثله: {فَإِمْساك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسانٍ} ومثله في القرآن كثير، رفع كله لأنها عامّة.
فكأنه قال: من فعل هذا فعليه هذا.
وأمّا قوله: {فَضَرْبَ الرِّقابِ} فإنه حثّهم على القتل إذا لقوا العدوّ ولم يكن الحثّ كالشئ الذي يجب بفعل قبله فلذلك نصب، وهو بمنزلة قولك: إذا لقيتم العدوّ فتهليلا وتكبيرا وصدقا عند تلك الوقعة.
قال الفرّاء: ذلك وتلك لغة قريش، وتميم تقول ذاك وتيك الوقعة، كأنه حثّ لهم، وليس بالمفروض عليهم أن يكبّروا، وليس شيء من هذا إلا نصبه جائز على أن توقع عليه الأمر فليصم ثلاثة أيّام، فليمسك إمساكا بالمعروف أو يسرّح تسريحا بإحسان.
وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياة (179)}.
يقول: إذا علم الجاني أنه يقتصّ منه: إن قتل قتل انتهى عن القتل فحيي.
فذلك قوله: {حَياة}.
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ (180)}.
معناه في كلّ القرآن: فرض عليكم.
وقوله: {الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ (180)}.
كان الرجل يوصى بما أحبّ من ماله لمن شاء من وارث أو غيره، فنسختها آية المواريث. فلا وصية لوارث، والوصيّة في الثلث لا يجاوز، وكانوا قبل هذا يوصى بماله كلّه وبما أحبّ منه.
و: {الْوَصِيَّةُ} مرفوعة بكتب، وإن شئت جعلت كتب في مذهب قيل فترفع الوصية باللام في: {الوالدين} كقوله تبارك وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. وقوله: {فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا (182)}.
والعرب تقول: وصيّتك وأوصيتك، وفى إحدى القراءتين: {وأوصى بها إبراهيم} بالألف. والجنف: الجور. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وإنما ذكر الموصى وحده فإنه إنما قال: {بَيْنَهُمْ} يريد أهل المواريث وأهل الوصايا فلذلك قال: {بَيْنَهُمْ} ولم يذكرهم لأن المعنى يدلّ على أن الصلح إنما يكون في الورثة والموصى لهم.
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (183)}.
يقال: ما كتب على الذين قبلنا، ونحن نرى النصارى يصومون أكثر من صيامنا وفى غير شهرنا،؟ حدّثنا الفرّاء قال: وحدّثنى محمد بن أبان القرشي عن أبى أميّة الطنافسىّ عن الشّعبىّ أنه قال: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشكّ فيه فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان. وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا، فحوّلوه إلى الفصل. وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ فعدّوه ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قرن منهم فأخذوا بالثقة في أنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الآخر يستنّ سنّة الأوّل حتى صارت إلى خمسين. فذلك قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
وقوله: {أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ (180)}.
نصبت على أن كلّ ما لم تسمّ فاعله إذا كان فيها اسمان أحدهما غير صاحبه رفعت واحدا ونصبت الآخر كما تقول: أعطى عبد اللّه المال. ولا تبال أكان المنصوب معرفة أو نكرة، فإن كان الآخر نعتا للأوّل وكانا ظاهرين رفعتهما جميعا فقلت: ضرب عبد اللّه الظريف، رفعته لأنه عبد اللّه. وإن كان نكرة نصبته فقلت: ضرب عبد اللّه راكبا ومظلوما وماشيا وراكبا.
قوله: {فَعِدَّة مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (184)}.
رفع على ما فسرت لك في قوله: {فَاتِّباع بِالْمَعْرُوفِ} ولو كانت نصبا كان صوابا.
وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة (184)}.
يقال: وعلى الذين يطيقون الصوم ولا يصومون أن يطعم مسكينا مكان كل يوم يفطره. ويقال: على الذين يطيقونه الفدية يريد الفداء. ثم نسخ هذا فقال تبارك وتعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْر لَكُمْ} من الإطعام.
وقوله: {شَهْرُ رَمَضانَ (185)}.
رفع مستأنف أي: ولكم: {شَهْرُ رَمَضانَ} الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقرأ الحسن نصبا على التكرير: {وَأَنْ تَصُومُوا} شهر رمضان: {خَيْر لَكُمْ} والرفع أجود.
وقد تكون نصبا من قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} {شَهْرُ رَمَضانَ} توقع الصيام عليه: أن تصوموا شهر رمضان.
وقوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ دليل على نسخ الإطعام. يقول: من كان سالما ليس بمريض أو مقيما ليس بمسافر فليصم وَمَنْ كانَ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ قضى ذلك.: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} في الإفطار في السفر وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ الصوم فيه.
وقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ (185)}.
في قضاء ما أفطرتم. وهذه اللام في قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} لام كى لو ألقيت كان صوابا. والعرب تدخلها في كلامها على إضمار فعل بعدها. ولا تكون شرطا للفعل الذي قبلها وفيها الواو. ألا ترى أنك تقول: جئتك لتحسن إلىّ، ولا تقول جئتك ولتحسن إلىّ. فإذا قلته فأنت تريد: ولتحسن إلىّ جئتك. وهو في القرآن كثير. منه قوله: {وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} ومنه قوله: {وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} لو لم تكن فيه الواو كان شرطا، على قولك: أريناه ملكوت السموات ليكون. فإذا كانت الواو فيها فلها فعل مضمر بعدها: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} أريناه. ومنه في غير اللام قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ} ثم قال: {وَحِفْظًا} لو لم تكن الواو كان الحفظ منصوبا ب: {زَيَّنَّا}. فإذا كانت فيه الواو وليس قبله شيء ينسق عليه فهو دليل على أنه منصوب بفعل مضمر بعد الحفظ كقولك في الكلام: قد أتاك أخوك ومكرما لك، فإنما ينصب المكرم على أن تضمر أتاك بعده.
وقوله: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب (186)}.
قال المشركون للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم: كيف يكون ربّنا قريبا يسمع دعاءنا، وأنت تخبرنا أن بيننا وبينه سبع سموات غلظ كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام وبينهما مثل ذلك؟ فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب} أسمع ما يدعون فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي يقال: إنها التلبية.
وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (187)}.
وفي قراءة عبد اللّه: {فلا رفوث ولا فسوق} وهو الجماع فيما ذكروا رفعته ب: {أُحِلَّ لَكُمْ} لأنك لم تسمّ فاعله.
وقوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ (187)}.
يقول: عند الرّخصة التي نزلت ولم تكن قبل ذلك لهم. وقوله وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يقال: الولد، ويقال: {اتبعوا} بالعين. وسئل عنهما ابن عباس فقال: سواء.